كلنا عمرو مصطفى!
بداية يجب أن نتفق أننا كلنا في غير مجاله كعمرو. والذين يسخرون من عمرو أغلبهم لا يستطيع أن يعزف لحنا واحدا من ألحانه، أو يقرأ نوتة موسيقية سهلة،أو حتى أن يجد مفتاح ال"دو" على البيانو. وإذا تكلم هؤلاء في الموسيقى والأصوات الغنائية لقال كلاما فارغا ولأضحك من درس الموسيقي لسنوات في المعهد مثلا.
وفي نفس الوقت فإن هؤلاء الذين هجموا على عمرو هم من بذلوا سنوات عديدة في دراسة الواقع السياسي والتاريخ والجغرافيا، بل وحتى اللغة واﻷدب والفكر حتى طوعوا وعيهم وادراكهم السياسي واحساسهم به، كما طوع عمرو آلته الموسيقية بعد تدريب طويل وشاق. وأصبحت لديهم القدرة على قراءة الأمور وفهمها كما يقرأ عمرو نوتته الموسيقية بوضوح.
والذي قال إننا كشعب مصري غير ناضجين سياسيا ،وإن كان تعبيره فيه شيء من الإهانة وكان يمكن أن يقولها بشكل أفضل ،إلا إنه لم يجانب الصواب كثيرا. غالبيتنا في السياسة مثل عمرو، وعندما تبدأ لعبة الأحزاب والانتخابات فإن الأغلبية الساحقة من الفقراء، وحتى الأغنياء المتعلمين كعمرو، سيظهر افتقارهم للحد الأدنى من المعرفة السياسية للإختيار فضلا عن المشاركة في العمل السياسي. وقد بدأت تظهر على الإنترنت مقاطع فيديو لبعض من أهلنا البسطاء يتم شراء أصواتهم لعمل توكيلات لحزب جديد.
هؤلاء البسطاء، مثلي ومثل عمرو ومثل كل من لم يتلقى الوعي الكافي للمشاركة في السياسة هم المشكلة. إنني أتخيل العملية السياسية كفرقة موسيقية كبيرة أفرادها هم مواطنو الدولة كلهم. وفي حالة الديمقراطية الصحيحة والصحية يكون كل أعضاء الفرقة منهمكا على آلته إما يعزف جملة ما أو ينتظر دوره ليعزف.
المشكلة هنا أننا لا نجيد استخدام الآلات ولا نجيد قراءة النوتة السياسية. ولهذا فإن العزف السياسي محكوم عليه بالنشاز مهما كان اللحن بسيطا ومهما كان المايسترو محترفا ومهما كانت النيات طيبة.
والمسألة ليست في الأمية،أو اصلاح التعليم أو البحث العلمي فحسب. هناك أزمة ثقافة وأزمة وعي ضاربة في عقول الأغلبية الساحقة منا. والغاضبون الذين يكرهون في النظام السابق تحجيمه للعلم والثقافة وحجبها عن الناس هم أنفسهم الذين يسخرون من البسطاء حينما يدلون بدلوهم. وكأنهم يرسخون لفكرة النخبة وأن من لا يعرف لا يحق له أن يتكلم وإلا نال من السخرية ما لا يطيق.
وهناك جانب آخر يتمثل في المذيعات والاعلام الذي يخرج أسوا ما في الضيف، ويضيع وقت البرنامج في حوار لا قيمة له. ففي حالة عمرو كان لابد على المخرج أن يقطع الحوار ما إن يشعر أن الضيف قد بدأ يخرف، فيشير للمذيعة أن تغير الموضوع فورا أو يخرج بفاصل لإعادة الحوار إلى مستواه المقبول. تخيل معي لو أن موضوع الحلقة كان عن شيء يعرفه عمرو ويمكن أن يفيدنا به، مثلا ونحن في شهر رمضان كان يمكن أن يشرح لنا المقامات الصوتية عند قراءة القرآن وعلاقتها بالمعنى. أو يحدثنا عن الموسيقي في الأندلس وعلاقتها بالموسيقي الحديثة، حيث أنه كان مهتما بعزف الألحان الأسبانية. تخيل معي القيمة الفنية والثقافية التي كنا سنحصل عليها من حلقة كهذه يخرج فيها المذيع أجمل ما في الضيف ويغذينا ويمتعنا بحوار دسم وشيق، بدلا من الأسلوب الطفولي الذي دار به الحوار في أكثر من قناة، والذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولأن الأعلام بهذا المستوى من الرداءة، فلا يمكن أن نلوم عمرو كثيرا على قلة وعيه. فمن أين ياتي بالمعرفة إذا كان هذا حال قنواتنا واعلامنا؟ .الصحف والمجلات الفنية تنشر الأكاذيب ليل نهار، مما يجعل عمرو وأمثاله يشكون في كل الأخبار حتى غير الفنية وكل المعلومات التي تأتي من هذا الاعلام إن جاءت أصلا. وعمرو مثله مثل ملايين غيره لم يتلق المعرفة السياسية من مصدر موثوق به.
ما أريد أن أقوله هنا هو أن نرفق بعمرو وأمثاله من البسطاء ولا نسخر منهم أكثر من اللازم، وأن نخرج من كل إنسان أفضل ما عنده ونعطيه أفضل ما عندنا.
ولعمرو نفسه أقول لقد ظهرت في صورة غير جيدة عندما انسقت وراء الرغبة في الكلام وتحدثت في غير مجال خبرتك. لا يكفي أن تعرف نظرية المؤامرة كي تتحدث في السياسة والشأن العام، كما أنك قد ظهرت في صورة مخجلة عندما تبين ضعف معرفتك باللغة العربية والتاريخ والواقع الحالي، بل حتى الإعلانات والجوائز الموسيقية التي هي قريبة من مجالك تبين انك لا تستطيع أن تتكلم عنها بشكل متزن وموضوعي.
أنا من محبي أغانيك وألحانك وأعتقد أنه سيكون لك مستقبل متميز محليا وعالميا إذا أكملت ما ينقصك في جانب الثقافة لأنها الأساس الذي تبني عليه أعمالك. إذ كيف تصنع الألحان أو تؤدي الكلمات دون أن تفهمها؟ ترديد الكلمات الكبيرة دون فهمها لا يصنع فنانا، سواء كانت هذه الكلمات وطنية أو عاطفية. فحتى أغاني الحب التي تبدو خفيفة ، توجد أحيانا وراء كلماتها معان عميقة تحتاج مثقفا شديد الوعي ليضع لها اللحن المناسب أو يؤديها بشكل صحيح.
وأخيرا أقول لنفسي ولعمرو ولكل عمرو، النقطة الإيجابية لديك، وهي حب الوطن، ستضيع بسبب قلة الوعي والمعرفة والإجتهاد في تحصيلهما. وسيتفوق عليك عدوك حتما لأن النيات الطيبة وحدها لا تكفي.